كيف خليتونا القيتونا، قصة ق



 قصة قصيرة 

كيف خليتونا لقيتونا ...

-أجي هنا.. ألامي (صديقي) شوا كباب.. شي حاجة لوكس.. انعمل ليك قطيبات الزين .. الشوا كباب...
كانت الوجوه التي أشرقت وتسمرت أمامي أعرفها.. أذكرها.. لكنها تلاحقني بأفواهها العطشى، وجوه سمراء، اكتحلت بفعل دخان الرماد الذي ينفخ فيه بفمه مرة وبيده ممسكا بطرف ورق كرطوني..
تحسست رطوبة المكان الأرضي بقدمي، جسدي ثقيل ..كم باركت لي هذه الأرض السعيدة، عانقتها سنين طويلة لم تطلق سراحي الا بصعوبة.. غادرتها.. لكن يقولون : رجال البلاد كايرجعوك فين ماكنتي ..
مازالت الدكاكين تملك ألوانها الداكنة الجميلة رغم زيف ألوان الانتخابات التي طلوا بها بسلطوية أوجهها.. مازالت الوجوه التي تمشط الشارع هي هي .. أحقا لم يتبدل شيء.. زحفت من مكاني جررت خطواتي وراء امرأة تثير شهوة العين وحرقة الشفتين...
-الزين..رايحه تبدلينا.. اجي اهنا امادموازيل.. عندنا شي حاجه فريكس.. شوا اكباب الخوت..(أيها الإخوة )
رنت في أذناي الأصوات الكثيرة التي بدأت تتهامس في القبض عليها وعلى الزبائن.. أعرف هذه الأصوات والتي طالما وشوشت تحت أذني أيام المدرسة. كانت ملامحهم الطفولية بريئة تعشق اللهو واللعب وترهب المدرسين . لازلت أذكر أن مدرسا كان يراهم في الفيلاج يلعبون (البيار) في الصباح يكون مسرورا بانتظارهم أمام بوابة المدرسة بهراوته..
لازلت أذكر أشياء جميلة حزينة عما التقطته أذناي وعيناي لكن أصابني الآن اندهاش .. هذه الأصوات اعرفها دون ان أرى أوجهها.. كانت الصور التي احملها عنهم باهتة، إنهم مواطنون صالحون.. موظفون وفرت لهم المدرسة حياة كريمة. وكانت أسرهم بحاجة إليهم ..لكن ..ها هو ..ها هم ...
-امسيو (سيدي )... شي قطيبات تقطع بهم الجوع .. ذوق اتشوف، فابور أجمي ..(قضيبات من الشواء تقطع بهم الجوع .. تذوق ذلك .. إنه مجاني..) 
تتجمع وتتزاحم الأجساد أمام رائحة وغبار الدخان الممزوج بالشحمة والملح .. يصرخ  ضدا في جاره.. يغرقان في دوامة عراك مفتعل بكلمات و تعابير لابتزاز الزبناء.
- اشحال القطيب الخوا ..؟(كم ثمن الشواء..؟)
- فابور أوجه ابلادي..( بالمجان صديقي..) 
يمد يده الى السكين يقطع نصف الخبزة التي تتحرك تحت كفه بسرعة وذكاء . واليد الأخرى حاملة مجموعة من القطبان.. 
-عشرة . .عشرين..!؟
- لا...ربعه في ربع الله ايخليك..
-16 ريال لا غلا عل مسكين أجي أنت فين غادي... كبيده جديدة... قليب هشيش ..شي حاجه لوكس اجمي.
يسرع في قذف الكلمات كخفته في وضع القطبان على النار وتقطيع الخبز وإثارة الكثير من الدخان عن طريق وضع قطع الشحمة فوق النار ووضع الدراهم التي يصنع لها رنينا في جيب صندوقته.
- بالصحة الزين، مرة أخرى. لا تبدلوناش..

تلوح سحب صغيرة في السماء والشمس صيفية الملامح . لن تقاس حرارتها بحرارة الأجساد التي تتهاطل ..لاهثة بما يطفئ نار عطشها وجوعها من طول رحلة الطريق وسجن رحلة الحافلة المزدحمة..
-شي صدقة عل الله.. عل الوالدين. شايله سيدي سماعين.. مول القبه البيضا ..(صدقة لله ،من اجل الوالدين ، من اجل ضريح الشريف سيدي اسماعيل..)
امرأة تجر فتاة صغيرة من يدها.. عجوز بكماء تظهر.. تنسحب المرأة والفتاة خوفا..
بعد ذلك يظهر على عتبة الحافلة شابان احدهما يحمل آلته الوترية والآخر بنديره(الدف).. ينغمسان في كلام طويل وأدعية ونغمات متقاطعة متسرعة تنتهي بجمع دراهم وانصراف الحافلة.. ثم رحلة أخرى بحثا عن أخرى وهكذا..
أتسمر في مكاني، تعود الى أذناي نغمة الأصوات ممزوجة برائحة الدخان والغبار والأجساد البشرية بالنسبة لي الرحلة تنتهي هنا ..لتبدأ معها رحلة أخرى.. المعاناة والأوجه.. القلق.. الانتظار..
-شوا كبابا الولاد.. شي قطيبات، ادخل القهوه.. تتغذى الطجين موجود ..
-مصطفى كيف حالك ؟
فغر فاه.. وتوقفت يداه عن الحركة حملق في بعينين حمراويتين.. تبسم .. أتممت جملتي 
- كيف دايره الحاله، اش أخبارك ..؟(كيف حالك..؟) ضحك..
- دوخك الدخان، ما ابقيتو تعرفو حد ..؟(عملها الدخان حتى لم تعد تتعرف على..؟)
-اسمح لي.. أهلا بك اش هذ الغيبه..؟
غرقنا في السلام والضحك.. وحكايات الأيام ومعها حلكة المأساة الحاضرة عن العمل وطرده منه.. ثم رحلته بدون جدوى..
-الحمد لله حرفة ابوك والا تخلى دار بوك، أليس كذلك.. ها أنا كاتشوف .. ما خصنا غير الصحة والسلامة (لا ينقصنا إلا النظر في الوجه العزيز..).
لم تتبدل الأشياء التي تركتها حتى لون الوجوه القمحية، إن ضاعت أوجه استبدلتها أوجه أخرى مشابهة. ها ابراهيم الكريسون وابلال ويوسف وبوبكر والشلح بوزو وبوشعيب..
وجوه الأطفال البريئة لا زلت أراها.. ها الكيلو ها علال مطيشة والمصطفى العبد الشواي حتى بائع الفاخر (عبو) لا زال في براكته ملطخ الأيدي والوجه وبائع الحريرة مع كميلته فوق المجمر يلعب  الروندا (الورق ) مع الضبابه في قهوة الطونيا ..
لا اعرف لماذا لم تستطع هذه الأجساد ..؟
ربما ، ربما .. قيل لي :
-اللي كانت عندو شي حاجة باقه عندو اللي باعها ابقا ايدور.(لم يتغير أي شيء..)
مازالت الأوجه السمراء الدكالية تعبر الشارع الوحيد مطالبة الأحذية والأرجل بالمسح..
- سيراج سيراج.. أو ميها بارده ..امسكين ..
دخلت المقهى الكبير من بابه الواسع وأقلقتني كثرة الألوان الاشهارية المعروضة فوق بطن هذه التربة أبحث عن وجه آخر أعرفه...
هذه المرة لم يكن في الوسط كما عهدته .. كان في الزاوية الخلفية نائما متوسدا عوده (آلته) أمامه طاولة عليها إناء صغير به بضعة دراهم  وعقب سيجارة صفراء. 
اقتربت...
-شي حاجة محمد عبد الوهاب الله ايخليك الشريف..؟ (من فضلك أغنية لمحمد عبد الوهاب..) 
قفز من نومه، استدار نحوي ببسمة حزن صغيرة، تغير(علوان)كان هذا اسمه.. تغير، ولكن عينيه مازالتا فارغتين غارقتين في صفحة وجهه المثلث. كان وجهه يحمل أسئلة كبرى .وأجوبة في نفس الوقت.. تناول آلته وبدأ يعزف وهو يضحك ..
- أما زلت تحب الجنرال محمد  عبد الوهاب ؟ 
أتعرف أن هناك  من يطالبني مستهزئا ب(بوب مارلي)و(مايكل جاكسون)هههه ؟
ابتسم ، كانت ابتسامته تحمل ألف معنى ، همس ببرودة بعد أن سألته السؤال التقليدي عن حالته .. قال :
-كيف ما خليتونا لقيتونا، مقودا والحمد لله .(كيف ما تركتمونا وجدتمونا..ههه)
بدأ يسرد همومه ممزوجة بفرحته وحكايات زمان. 


3
كانت الشمس تميل الى الغروب بصفرتها وبأحزانها.
وبرحلة أطفال ماسحي الأحذية، رقص جديد و انتظار خبز كاكي ..
الأصوات لا تنقطع من الشوا وصاحب التصيكيكة (مزيج اللبن بحبات الكسكس)
وعل الله ثم غناء الحاجة الحمداوية *ونجاة اعتابو* من دكاكين الجزارة وصوت يتكرر، يتكرر، ويتكرر في..
-كيف خليتونا لقيتونا.. نا.. نا..ااا

--------
**من رائدات الغناء الشعبي بالمغرب
** زاوية سيدي اسماعين مركز قروي يبعد عن الجديدة ب50كلم

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزلزال، كتابة الفاجعة. ق ق ج

كرسيتينا، قصة قصيرة