الولوجُ إلى بوابة الحبّ من نافذة اللّغة
قراءة في ديوان لو.. للزجال خليل القضيوي الادريسي
 عزالدين الماعزي
١
تقديم
كلّ كتابة تخادع، تنصبُ الفخاخ والمقالب، عينٌ وعيون تتلصّص بأضواء مشعّة، أتساءل ماذا يعني أن تحمل ثِقل العالم فوق ظهرك لتُدفئ الآخرين ؟
ما الذي يرغم الكاتب على المشيّ حافيا في طريقٍ من الإبر؟ حلمُ الشاعر أنْ يكون متميّزا، رأسه وجعُ صدى كتبٍ فتنتْه في الحلم، لا وقت لديه للمشيّ والعبور الّا بالسرعة والجريّ ليرغمنا على الإنصات لتفاصيل الآن. الشاعرُ ينضُد الوحشية على الورق، أكرر دائما، بعض الوجوه لا تحتاج إلى تجْميلٍ ولا تحتاج إلى قبّعات ناصعة. هي هكذا تقف دون حرجٍ، ضدّ نفسها ومع الآخرين تلعنُ الظلام والفساد وتتباهى أن تخدش الزجاج، تملك الجرأة، جرأة القول والاستفزاز بأجنحة ملائكة وبلسان ملتهبٍ (لا يضعُ لِسانه في جْيبه)، ينتمي إلى سلّم الحياة القاسية، يحلم أنْ يكون متميزا، منتصرا للقيّم الكبرى، يضرمُ النار بقسوة معتادة.
(أنت مواطنٌ صالح ما دمتَ لا تثْغو مع القطيع )
إذن، افتحوا للشعر طريقا، ممرّا، كوة للنّبض، للحديث. اكيد، لن نخسرَ شيئاً إذا دسّسنا أيدينا في حزم القصائد وسألنا المعنى عن الذوق ماذا سنخسر..؟ (لو ما يعشق الريح: البحر/ ما يهيج ماه/ ما تجذب مواجو هبيله
لو ما رشات السحاب الجبل، ما يصيب هناه/ يعيش ليالي وحشه طويله../
لو تخمم ف غدا / لو تخمم ف غدا يفوتك اليوم
يضيع عمرك سهوى....تعيش مهموم
...لو تفكر ف اليوم ب جرح البارح / تحس ب دمعك جاف سايح./
٢
عتبة الديوان :
يظهر جليّا الجهد الذي بذله الزجال: خليل القضيوي الادريسي، في مجموعته الجديدة التي اختار لها عنوان: لو..، الصادرة عن دار سليكي أخوين في طبعة أنيقة صغيرة جدا، بحجم الكفّ وبلون بنّي له دلالة كبرى سنتعرض إليها لاحقاً... بعد ديوانيه السابقين: "بغيت نحيا بغيت نموت" سنة ...، و"حكايتي" سنة ..
اشتغل فيه على إبراز ودلالة عناوين بإهداء كالتالي: (إليك وحدك شعلة للحلم ومنبعا للإلهام)
الماضي، العشق، لو كانت الحياة مرتين، لا نلقاك تاني، لو ظنيت، يا سعدي، لو بيد القلب، لو تخمم ف غدا، النسيان، لو نصيب الحياة.. خلافا للسائد في ديوانيه السابقين. يقول:
لو يعود الماضي من حياتي لو يرجع اليوم، ما نعيش دقيقة من أوقاتي تالف مضيوم،
تعلمت من عيشة البارح، لا حال ف الدنيا دوم.  ص٣
في قراءتنا سنبدأ بالعنوان، العنوان الذي حدده بحرف لو...، وثلاث نقط، ديوانٌ زجلي داخل اطار مستطيل أبيض ولون الغلاف رمادي.
لوْ، حرف صغيرٌ في تركيبه ومبناه، كبيرٌ في معناه ودلالته، لفظ ٌسهلٌ في النطق كما يقولون، في ألفته، في سهولته، في امتناعه عن الجواب، لامتناع الشرط أو في طلبه بلينٍ ورفق وامتاعه واحتفائه بالخفيّ والمختفي.
هو الانتقال كما أقولُ من حالة إلى حالة، تصعيدٌ ومضاعفة واختزال شاسع، واسع لشيء أو أثر غير عادٍ في مكان غير معروفٍ، هو احتفاء بالدلالة والخصوصية التي تمارس علينا، عينٌ على السلطة، سلطة الكتابة، كتابة النصّ بصيغٍ مختلفة وتفجير للطاقة ضمن نسق ورؤى ومشاهد ملتقطة بالعين الراصدة من الديوان مروراّ بالإهداء، إلى الماضي والعشق ولو كانت الحياة مرتين ...إلى لوْ، بالإمكان..
الشاعر يتفرّد في ابداعه لا يقلّد ولا يعجِز عن محاكاته الآخرون، يبدع في قضاياه وواقعه فيضخّ هنا وهناك نارا عطْرا، ماء، ملحاً. لُغته مختزلة تميل إلى الاقتصاد والتكثيف مع جعل الكلمات على مقاس المعنى المراد. في مقاطع قصيرة جدّا بإبرة الاقتصاد تصبّ بعيدا عن الحشو وصور التأويل، تتجاوز مقاطع أقرب إلى الشذرة منها إلى مذاق الشعر ...
أليس تاريخ الكتابة هو تاريخ الوجع، وجع التفاصيل والاقصاء ..؟ يقول في أحد نصوص الديوان:  الحياة وقفات:
كل وقفه ليها دوره، الحياة رعشات: كل دهشه ليها صورة، ص١٠، الحياة وجيبه/ بحر، حلو كلها يشرب شريبه/ كية من مات عطشان/ ص١١، الحياة لعيبه...مهما طال العمر ...الحياة قصيرة /ص١٢.
الشاعر حارسُ اللغة بقدر ما هو مفجرٌ لها من أجل ولادة أخرى، يحتفي بّا خليل، باللّغة من منظوره الخاص لا يقصي ولا يحذف، يحتفي بالكلمة على المقاس ويدعوها في محرابها لتسبح معه أو لتسيح في بحره، بمعنى المحتمل تحتفي بالشحن مزيدا من دماء ومنطق الحلم للولوج إلى بوابة الحبّ والوجد من نافذة اللّغة.. ذائقته الشعرية تنفعه وتدفعه ليستعين بنظم واسشهادات الصوفيين: الحلاج والرومي وكتابات زيدان، حول الحبّ كعناوين وعتبات فاتحة الشهية لنصوصه القصيرة الضاجة بصراخ الذات متجاوزةً الذوق إلى التأويل والاشباع في حركية النص والضمور والاختزال لكشف المدلول في أقلّ من ربع كلمة ..
٣
التسلل إلى حديقة الشاعر:
التّسللُ إلى حديقته الشعرية هو تلصصٌ إلى، وعلى كُتب، الاقترابُ من تناصّ نصوص متراصّة، من أسئلة تيمة محبّة الوطن في قلب الديوان، إنه تدبيرٌ شعري، ربط الواقع بالمتخيّل الذاتي والموضوعي حيث يستمد النص من أشكاله ومضامينه.
من استحضار الواقع المعفّن، استحضار الشرارة واضرام النار في الكلّ، في المعنى والمبنى، استحضار الايقاع الموسيقي الذي أحدث انقلابا داخل الأوزان على امتداد الديوان، هو ايقاع الانتكاسة والخيبات المتكررة بوقعِ وضجر السياسة وثقل المجتمع والثقافة وانعاكسها على الذات والهوية والكتابة وتفاعلها مع الواقع والحياة والتقاطها للمنفلت ...
الشعر شرّ لا بدّ منه، الشعرُ هو من رأى عورة اللغة وضحك وفضح بل هو بهلوانٌ صغير بتعبير أحدهم يقفز بين حبال الانساق. تصبّ عليه اللعنات ويطرد من المدينة وينعت بأن اكذبه أعذبه .
٤
تضييق الجملة واختزالها:
تضييقُ الجملة الشعرية، كيف يتحوّل منْ كلمة إلى جملة قصيرة، إلى كلمة دالة كاشفة عارية شاهدة مستشهدة، من ثورة إلى حكمة إلى لحظة وصف ضيقة، إلى ومضة تأمل واسعة شاسعة، تحتمل القراءة والتأويل...ص20....
لا تخاف تعرضها للحشْو والارتباك وفقدان التوازن، إلى ادراك ما لا يدرك ورؤية ما لا يرى في الحين والادراك .....
٥
جدوى الكتابة والحاجة الى التجاوز
في قلْب التعفنِ المتنامي في الحياة والتشكك من/ في سؤال وجدوى الكتابة وكيف يظل الشاعر محتفظا بموقعه كشاعر في قلب المشهد، في تنافي العنف، تزداد الحاجة إلى الشعر كحالةٍ جميلةٍ يتعذّر تجاوزها، الشعر حالةُ وجود، لكنّه يظل حاضرا للتحول والتجدد ورغبة الحياة،
في ص12 ، حكمة قوية بدلالتها (مهما طال الامر.. الحياة قصيرة ص١٢، لو تخمد حرقه السؤال نموت
لا/ ما يفنى غير من عاش ميت ص٢٥
ويضيف أن الفراق منجل ونار، ومخيط، لفعى ..يا الراقد تحت التراب
كيف لحال لهيه
واش نسيتي مجمع لحباب
الخاطر اعليك اش يلهيه ص٢٩
بين الصورة الروح
فاضت بشروح
كل ما قربنا من الجواب، زاد الضباب وضوح
لا شيء ف الدنيا خساره، ولا شيء مربوح / ص٦٣.
يا صاح كلما تناسيت
يزند رماد البارح عوافي/ ص٧٥ كلما غامرت
ما لقيت عش دافي.
٦
الطبيعة في ديوان لو ...
نلاحظ على طول الديوان حضور تيمة الطبيعة وعناصرها، حاضر بكثرة في الديوان، لا أعرف هل يعود الى علاقته بالطبيعة خصوصاً البحر وأمواجه أو الى مخزون طفولته ومشاهداته اليومية وعلاقته وتفاعله معها
للبحر
تاهت القافلة، زاغت على الغاية لبست ثوب الحداد الحكاية
ناس الوفا صدوا
ضاع رسم الطريق
الخايبين ف الارض فسدو
جف ف الجوف الريق، ص٢١
ويضيف في مقطع آخر، لو تسمع رعد سكاتي/ يمكن من بعادك تتوب
ما خبل فكر اوقاتي غير.. اش بيدي ..اش مكتوب ص٢٢
في قصيدة العالم يقول: لو البحر مداد.. ما يكتب قصة انسان
من فكره، تولدت افكار  بصماته شامخه عاليه الشان. ص٥٩
فكره ما هو فاني، بحور وجبال
بين الجاهل أ القاري
كلام العقل للحياه عنوان ص٦١
٧
حضور تيمة الأغنية :
حضور الاغنية مندغمة ومتماهية في نصوص الاخ خليل دليل آخر على تماهيه واهتمامه بالإبداع الغنائي ومشاركته في انتاج نصوص للفرق الغنائية، كيف لا، وهو الصوت الصداح الرخيم المكرر لأغاني خالدة في الذاكرة المغربية، نموذج أغاني فرقة لمشاهبْ ينساب بعمق داخل ثنايا نصوصه. هي إذن، عناصر قوية لإضرام النار واشعال فتيل الابداع مستلهما إياها في العديد من نصوصه ونلمس بعناية تأثيرها فيه وحضورها المستفيض لتلتئم مع درجة غليانه وتوتره وانسيابه في مطمح البحث عن اجابة شاملة.
اليس هو القائل: لو كنت انا، انا، ما كان يمكن يكون انا غيري
لا هو اختار طريقه
ولا انا بيدي مصيري ص ٦٢
يقول:
يا صاح، شاط راسي من حسابي
هديت عمري...لاحبابي
يمكن
يمكن
هذا مكتابي، شكون نحاكم ف عذابي؟ ص٦٩
في قصيدة مشموم الهيجات، يقول:
لو ما كان الحال هو الحال/  ما يشغلنا سؤال
ما يتشطن بال...مدى مريرة لينا تبان. ص٧٧.
في الأخير،
يمكن القول: إن الشاعر نجح في تفعيل متْنه الشعريّ على خريطة الزّجل المغربي وتمكّن من توحيد مقاصد القصيدة وتجريب مفاتيح أخرى وأدوات جديدة بعد كتابيه السابقين " بغيت نحكي بغيت نموت " و" حكايتي"   وبينهما مسافات طويلة وتحقيق الصعب والعصيّ دون السقوط في الاستسهلال، بل وتطوير تجربةٍ رائدة واكبتها تجاربٌ أخرى على المستوى الوطني.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزلزال، كتابة الفاجعة. ق ق ج

سبع مقاطع خرقا القاعدة.. ق ق ج