يا بني.. لا تمش في الطريق، فصة


 


قصة قصيرة 

عزالدين الماعزي

يا بنيّ... لا تمش في الطريق.

يمشي في الطريق المُمتد من شارع مركز البريد في اتجاه مركز الدرك الملكي. رأسه ساحة معركة، يدور برجلين ثقيلتين كأنهما ملتصقتين بكُرة اسمنت مشدودة لسلسلة  كالتي رآها في ساحة مدينة شاطئية، وكأنه يقذفها، وها هي تقذفه الآن. على يمينه العديد من المقاهي المتناثرة بأسماء مختلفة مقززة، وحوانيت متشابهة في التراكم والألوان والسلع والوجوه، يمشي جنب الطوار تجنبا لمُروق العربات الخشبية (الكراول) والشاحنات المحملة بالحجر والرمل.. 

يهيمُ، يصغي، يحدّقُ، ولا يصدق كيف تحضر الاسماء وتتلاشى الأمواج؟ 

يواصل الصراخ وقراءة اللوحات الإشهارية بصوت عال. يسري في دمه دم منفصل عن القطيع.. يقاوم، يحملق في أحد المارة ويصرخ : 

- اطفي الضو.. الخرا..!؟

يمضي دون أن يلتفت للدهشة التي انفلتتْ من الاجساد أو ألفها البعض وتعايشت معها الساكنة.

أصرّ صديقه أن يحكيَ له عن ابنه الذي نساه أو تناساه، ولمسايرته كان يحرك رأسه متابعاً تكرار الأغاني الشعبية، فيما كانا يمشيان معاً ويتيه عنه في نفس الطريق التي... 

كانا على وفاق، وهما يعيشان في نفس البلدة التي أنعم الله عليها بالمخزن وكثرة الكلاب وقلة الايمان.

كان ينبغي أن تكون صلة وصل بين البلدات القريبة ونقطة مرور للعديد من المدن. فيها، عليك أن تحاذرَ المشي فوق الأوحال أما الكرافيط فوجوده محال..

هذه الأشياء تُنفرُك منها وبالأحرى تكره نفسك، وأنت تشمّ روائح الأزبال بمختلف الأشكال، في الطرقات وخلف المنازل والبيوت المبنية عشوائيا.

يقول السارد :

- أنت تعيش بينهم أصاحبي ولا تكتبْ عن مشاكلهم وآلامهم ؟ وهم ينسجون عنك حكايا كغزل الصوف فيها غناء ومواويل، وأنت تمشي هائما في الطرقات، وراءك ضرب الطعارج ونباحُ كلاب لا ينقطع...

استمتعْ بموسيقى ممزوجة بصفير الريح وأصوات صراصير الليل، استمتع بهذا كله وانْتش فلحظتك تلك لا تملكها بل تملكك، واحمد الله أنك مازلت تمشي في الشارع المزيّن بمصابيح لا ينقطع ضوؤُها ليلا ونهارا إلى نهاية مركز الدرك، لكي تحكيَ لهم عما وقع ليلة أمس، عن المليون وسقف الصرف والسبّ والقذف، والعنف اللفظي الذي يسري في أبناء الكلاب. 

فيما أنت تستمع إلى بحّة صوت المغنية الشعبية فاطنة بنت الحسين من قلب حانوت جزار البلدة، وإلى عشق الطفلة التي تلوك العلكة في الوقت الذي تسير فيه كرجل بالغ، يكرّر حياته للعيش في القاع.

تحاذر أن تسقط جنبك شجرة هرمة أو عمود كهرباء متهالك، تصرخُ في وجه النوافذ التي فتحت : 

- وطفيوْ الضوْ، المساخيط؟

يلتفت للسارد الملحاح ويجيبُه : 

- أنت تعرفني صديقي وتحقّني جيدا، فلماذا تكثر عليّ الأسئلة التي تثقل كاهلي..؟

 تبتسم، وأنت تستمع إليه كصاحب قفص الطائر الحزين، يداري يومه في الممكن من المستحيل. وكلما رآى شبحا غرق في توهماته، وتوهم أنْ يكون ذاك الذي رآه في الحلم ليس ابنه أو ابنته.

أصبحتَ تعرف أنك ذلك العصفور الأصفر، دون أن تحاول مدّ يدك إلى السلك الحديدي لو احتجت إلى شربة ماء أو حبّات زْوان. يدك البيضاء لا تكفّ عن التلويح والتحليق في أجواء كرهتها. في المرة القادمة أحضرْ لي معك أوراق خسّ أحتاجها؛ الخسّ الذي زرعته في حديقتك الصغيرة والذي يكبر ملتفا حول نفسه فقط. حاولت أن تكتفيَ بقطف باقة منه بل تفاجأت بظهور الفجل بجانب الحوض ونبات الباربة الحمراء التي تكادُ تموت  بفعل الحشرات الصغيرة.

ولكي يعود إلى جادة الصواب طلبت منه أن يسردَ لك عن ساعات التأمل والقراءة التي يقضيها بين الكتب؛ عن ابن عربي والسهروردي والنفري أو بين جثث الأموات في المقابر يُحدق فيهم ..

بالتفصيل أنت لا تحبّ إلا فتجنشتين الذي اختار الابتعاد والعيش في غابة قرب شاطئ البحر ونسج صداقات مع الطيور.

كنتَ متيقنا أنه لن يموت إلا وحيدا، أعزل بعد أن كان طافحا بالحيوية والنشاط وأخبار النساء. الحياة عندك بين الخفة والثقل، بين التوهم والتشرد والعزلة.

من يومها أصبحت كنافخ المزمار، أحبّ الأمكنة إليك هي المزدحمة، كالعجوز الذي يكسر روتين حياته بالركض طول النهار بحثا عن شيء لا يعرفه، كبّا الحاجْ الذي يحمل كيسا أصفر على ظهره ويمشي أو يتسكع حسب المصطلح الذي يمكن أن نطلقه عليه، ويشتكي من عنف ذويه الذين تركوه على الدصّ، وزوجته التي تبعتْ أبناءها. أما هو فيحطّ رحاله مساء كفراشة تحوم حول النار التي يوقدها قرب المدرسة الابتدائية القديمة. يحرص أن يغني : 

مضناك جفاه وبكاه ورحم عوده

حيران القلب مُعذبه،

الحُسن حلفت بيوسف والسورة أنك مفرده

ثم يكرر بسرعة خاتماً المقطع : 

جحدت عيناك ذكي دمي.. أكذلك خدك يجحده.. 

ويجذب نايه من جيْب سترته عازفا أنغاما شجية مستلقيا على ظهره.

صديقي، دونك الانفلات من زوبعة الأفلام ورأس الحواجز هروب وسياحة.

وبحرص لازم، يطالعك النهار وشروق الشمس التي انسلّ من تلالها عصفور من القفص، وحلق فوق المنازل المشتعلة نارا وبدأ الرقص عاريا فوق السهول، يداري أحلامه وجراحه.

- واطْفيوْ الضو المساخيطْ.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزلزال، كتابة الفاجعة. ق ق ج

سبع مقاطع خرقا القاعدة.. ق ق ج