الأبعاد الفنية في ( الرجل الذي فقد ذيله ) لعزالدين الماعزي

الأبعاد الفنية في ( الرجل الذي فقد ذيله ) لعزالدين الماعزي
عبد الرحيم التدلاوي

يعد القاص والشاعر عزالدين الماعزي من رواد كتابة القصة القصيرة جدا، وله فيها جولات، ولعل نصه "الحبّ في زمن الكبار" يعد من أهم نصوص القص الوجيز الذي يضاهي ما كتب عالميا في هذا الجنس، فالقصة بسيطة وعميقة ومفتوحة على تأويلات عدة، وقد مكنه من الاشتغال في هذا المضمار من إغناء المكتبة المغربية والعربية، بمجموعات ذات جودة، إلى جانب كتاب مرموقين، من أمثال: حسن البقالي، والبويحياوي، وبرطال، إلخ...
وإذا كانت مجموعته الآنفة الذكر "الحب في زمن الكبار" قد تميزت بتنوع موضوعاتها، وطرق اشتغالها، فإن مجموعته التالية "الرجل الذي فقد ذيله"٢، جاءت كذات واحدة، كونها تطرقت لموضوع واحد استغرق كل النصوص بتعدد زوايا النظر، واختلاف الرؤية؛ فقضية السياسة والنقابة كانت الشغل الشاغل للقاص معبرا بذلك عن ارتباطه بواقعه الذي شهد تحولات كثيرة، وأحداثا عاصفة، فلم يكن من الممكن الانفصال عنه بل حتم عليه ذلك مواجهته بفضح ممارسات شخصياته الزائفة التي تقف وراء تهميش الإنسان البسيط والكادح، وجعلته يعيش حياة غير كريمة. وبناء عليه، كانت كتابات القاص هادفة إلى التصادم مع هذا الواقع بغاية تغييره، لأن المبدع الحق هو من يتبنى قضايا مجتمعه، وبخاصة قضايا الطبقات المقهورة، يقف إلى جانبها برفع منسوب وعيها، وبفضح ممارسات المستغلِّين .
تتميز نصوص المجموعة بالقصر، وإن اختلفت من حيث الحجم، حيث ورد بعضها في سطرين، وبعضها الآخر في صفحة تقريبا، أتت في جمل قليلة، ومضغوطة لا تسمح باستئصال كلمة واحدة؛ لأن القيام بذلك سيؤدي، لا محالة، إلى تهديم بناء النص . نحا القاص في بسطها على الصفحات منحى متنوعا معتمدا ذائقته الشعرية، ومعبرا بذلك عن تداخل الجنسين، حيث إن الحدود بين الشعر والقصة القصيرة جدا شبه مائعة، فعزالدين من بين المبدعين القلائل الذين حققوا جمالية لإبداعهم القصصي بمزج شيئين بنجاح كبير ويرجع السرّ في ذلك إلى التذويب الجيد للحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية النثرية والشعرية، في الوقت نفسه الذي حافظ فيه على أهم خصيصة للقصة القصيرة جدّا، ألا وهي السردية، وذلك بوضع هذه السردية في قالب شاعري لا شعري.. فالقصّ الوجيز يعتمد الشخصية وتنامي الحدث. هكذا، نجد نصوصا على شكل قصيدة النثر، مرة ضامرة تسير بشكل رشيق، كأنثى فاتنة من فتيات العرض، وأخرى تتباين أسطرها طولا، وثالثة تخينة دون أن يعيق الوزن مشيها الرشيق، فشحومها ليست زائدة، ولا ضارة.

- تعريف القصيدة الكونكريتية:
القصيدة الكونكريتية هي قصيدة المكان وتبئير الفضاء الطباعي وتجسيم جسد القصيدة الشعرية وإشباعها بالحبر الناطق فوق رقعة السواد، كما أنها قصيدة تخاطب العين والبصر، وتحاورُ الحواس الإدراكية المجسدة، ومن أهم وظائفها الجمالية الوظيفة الأيقونية ذات الأبعاد السيميائية لكونها تركز على العلامات غير اللفظية والمؤشرات الأيقونية الدالة.
ومن هنا، فالقصيدة الكونكريتية هي قصيدة المكان والكتابة التي تتناقض مع قصيدة الكلام والدال الشفوي. وبالتالي، فهي قصيدة حسيّة ملموسة تتعامل مع الخط والكرافيك والوحدات الخطية والتبئير الطباعي، كما ترتكز على التشكيل والتلوين وتوظيف الأشكال البصرية والتلاعب الساخر والمفارق بالعلامات الترقيمية التي ترد في أشكال طباعية سيميائية دالة.
وعليه، فالقصيدة الكونكريتية تتجاوز القصيدة الشفوية وتنزاح عنها تشكيلا وتبئيرا،  وتدلالا . ومن هنا، يتقابل في هذه القصيدة عالمان: العالم اللغوي ذو الطابع الإنشادي والإيقاعي، والعالم الكاليغرافي المشكل بالحروف المخطوطة والأشكال البصرية المتنوعة ضمن ألوان مختلفة تتجاوز ثنائية البياض والسواد.
ومن أبعاد التشكيل البصري للنصوص مخاطبتها للعين، بالأساس، على اعتبار أنه بعدٌ مهم إلى جانب البعدين الفني والموضوعي، وإذا ما قرأت، ضاع منها هذا الجانب المهم والمفيد، كونه يتفاعل إيجابا مع بقية الأبعاد الأخرى المشكلة لفنية القصص.
نصوص تخاطب حاسّة البصر وتؤكد على انتمائها للتلقي الورقي، إذ إن التلقي بواسطة حاسة السمع، كما تعودت على ذلك الذائقة العربية، سيجهز على جمالياتها، سيفقدها بعدا فنيّا ينضاف إلى البعدين المعروفين: الشكل والمضمون، وبناء عليه، تكون تلك النصوص، مدرجة ضمن فنّ لا يستكين للتلقي العادي. ثم إن طريقة عرض النصوص على الصفحة قد اتخذ أشكالا متنوعة، فمرة يكون على شكل عريضة ضامرة يحيط بها البياض من كل جانب، وحضورها على هامش الصفحة يخبر أن البياض يسعى إلى نفيها خارجه، لكونها شاذة، كما في قصة "السيد بافلوف" ص8 حيث أتى النص بهذا الشكل:
لأنه تابع
طيب مطيع
للأسياد
سريع خجول
وبارع
نشيط سميع منيع
فإن عينيه جاحظتان
ورجليه أرنبتان
للقمة
والأماني
مصممة
كما يقولون للصدمات
وتلميع الصورة
في الصفحات
إن النص يقدم صورة ساخرة عن هذا الرجل الذي امتلك كل صفات الطاعة والخنوع، مع ميلٍ لخدمة الأسياد وتلميع صورتهم. ومثل هذا الرجل لا يمكن إلا محوه كونه فيروسا قاتلا للجمال، ولكل القيم النبيلة من مثل العمل المنتج، والكفاءة الخلاقة.
كما نجد نصوصا مشكلة من فقرة أو أكثر، وبعضها جاء على شكل قصيدة النثر،  أسطرها متفاوتة الطول، وكأن هناك صراعا بين البياض والسواد، وتسعى النصوص من خلال سواد حبرها إلى تأكيد حضورها، وتشبثها بالحياة، تنفر من بياض الكفن، وتعلن من خلال لطخة وجودها تمردها على الموت. والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي فيها بهذا النص الذي يحمل عنوان "العودة إلى الوراء" ص12، قول السارد:
لأنه أكثر من واحد وواحد
فقد شد على العباد والعماد
مصلحة البناء والكهرباء
فضحته...
هذا معانا خليوه
هذا كان ضدنا زيروه
وبالأوراق والتنابر حملوه
وسيفطوه
يجيب الملح
من
السودان...
فالأسطر تكبر وتتضاءلُ بحسب معاني الجمل البانية لها. والبيّن أن القصة قد جمعت في طياتها الكثير من التقنيات المشغلة بذكاء في بقية النصوص بمقادير مختلفة، فنجد الحذف الدلالي والتركيبي، صحبة نقط الحذف المعبرة عن البياض المطلوب ملؤه، واللغة المحكية ذات الطابع المحلي، والحاملة في طياتها السخرية من طرق اشتغال هذا الرئيس، إذْ يعمل على تقريب المنبطحين، وإبعاد المعارضين بتحميلهم أعباء مادية ومعنوية تقترب من المستحيل، كمثل جلب الملح من السودان. إنه تعزيز، بيد أن السارد يعمل على فضح سلوكاته المتناقضة، ويعري أسلوب تدبيره وتسييره الأعرج.
 وبهكذا، يصير البياض متناقض الحضور، فهو، مرة، يدل على الحياة، ومرة، يدل على الموت، وكذلك الشأن بالنسبة للأسود، ونستنتج أن القاص يتلاعب بالألوان، ويوظفها بحسب سياق النص، ويحملها الدلالات التي يراها مناسبة.
تدعونا النصوص وقد تشكلت بتلك الطرق إلى الخروج من خمول التلقي إلى إيجابية الفعل والتوليد، تدعونا إلى إعادة البناء بعد الانتباه لكل المكونات دون إسقاط أي عنصر مساهم في معماريتها . إيمانا منها أن فاعلية القراءة لاحقاً  تستطيع أن تُشارك الكاتب في تفعيل النص وإثراء دلالاته، اعتماداً على تقاطع المقروء مع مخزون الذاكرة، وما يُثيره من غنى دلالي، في ضوء النص / الزمان / المكان / القارئ .
"إن أهمية القصة القصيرة جدا تكمن في أن نصوصها الجيدة تكشف عن تعدّد حقولها الدلالية، وتُساعد القارئ على إعادة إنتاج الرمز الذي ينهض به وعليه، أي فيما يتصل بحال الرسالة التي يُريد المبدع إيصالها إلى المتلقي (أو المتلقين) سواء أكانوا أفراداً، أم مجتمعات، ويُغني النص ـ في حالته هذه ـ عن نصوص سردية طويلة.."١
يوظف القاص اللغةَ المغربية المحكية في نصوصه ليُقوي طابعها المحلي، مؤكدا أن ما يعيشه المواطن المغربي هو ما يعيشه الإنسان ، وما يصبو إليه ويتوق إليه الكائن البشري منذ وجد؛ فالحرية والكرامة، والعدل، قيمٌ سامية يطلبها الإنسان في كل مكان، وتشكلُ مطمحه المتواصل، ناضل من أجلها سبارتكوس، وعنترة، وبلال، وغيرهم، وكانوا بشكل ما وراء رسم حدودها في زمننا المعاصر، رغم أن بعض الأنظمة الاستبدادية تسعى إلى طمسها.
التسريع السردي:
يلفت انتباهنا توظيف القاص لتقنيات عدة تهدفُ تحقيق السرعة السردية بتوالي الأحداث، إما بالحذف، وإما بتتابع الأفعال، كما في نصه "الرئيس" ص66، يقول السارد فيه: أقبل جاء حضر دخل صعد زمجر غضب كشر سلم لوح فتح أغلق الباب الكرسي الملفات الأوراق الأصدقاء الأعداء الهاتف
رن رن رن...
ألو...
...
...
لا أحد مثلي. قال
وضع السماعة ونام مكشرا.
ففي هذا النص نلاحظ تتابع جملة من أفعال الحركة دون فواصل، مما يعني تتابعها المتواصل والمستمر دون انقطاع، جامعة في دلالاتها المتناقضات، إضافة إلى أن فعلاً من هذه الأفعال، جاء مرة واحدةً متبوعا بمجموعة من المفعولات المرتبطة به؛ إنه فعل: أغلق، الذي امتد تأثيره إلى: الباب والكرسي والملفات والأوراق والأصدقاء والأعداء، فالإغلاق واحدٌ والمغلق متعدد، ولا ضرورة لتكراره، إنه مكرر بذاته وفعله لا بحرفه. كما نلاحظ تقنية الحذف والإضمار، وما ذلك إلا بغاية إبراز تسلط الرجل، وغيابه المقصود، وتفرده. وما القفلة إلا عنصر شديد المفعول للتعبيرعن هذه الفرادة، فالنوم بتكشيرة رمز الوحشية، وعدم الاطمئنان.
ويتصادى النص مع قصة "الذي..." ص41 من حيث التيمة، ومن حيث تقنية الحذف والإضمار، فالعنوان اسم موصول غير مكتمل المعنى إذ هو بحاجة لجملة الصلة، وكأن بتر تلك الجملة يجعل الرئيس المتشبث بالكرسي كلمة فضلة لا أهمية لها لكونها مغتصبة، وبالتالي فهي جملة ناقصة غاب عنها رضا الشعب. والنص جاء رشيقا يعمد إلى خلق دينامية وتفاعل بين السواد والبياض، ويؤكد هيمنة السواد، كما لو أن الرئيس ليس سوى علامة مكشرة في وجه الجمال، وعلامة شاذة في مسيرة الحياة. إن صراعها ليس من أجل الإنسان، ومن أجل خدمته، بل تقاوم لمصلحتها، وبقائها على الكرسي.
اعتمد القاص في مجموعته على الصدق مع عمق في الطرح مكناهُ من منح نصوصه إشراقات تضع الضوء على دلالات النص مباشرة، مطعمة  بقيم الحق والخير والجمال، مع تأكيده على خيار الحرية و الدعوة للتضامن مع همّ الإنسان في صراعه ضدّ كل أشكال الاستغلال، وقد انتعشت النصوص بفنيتها وقدرتها على التعبير السردي المكتمل الموجز؛ موظفة توالي الأفعال لغاية تسريع السرد، والحذف الدلالي، واقتناص المفارقة البانية والمعبرة، مع مسحة ساخرة من المستبدين، بتعرية سلوكاتهم، وجشعهم، كل ذلك بلغةٍ بسيطة وعميقة مطهمة باللغة المحكية لتبييء نصوصه من جهة، والتأكيد من خلالها على مشاركة المغربي هموم الإنسان في هذا العصر المكتظ بالمشاكل.
هامش :
1. القصة القصيرة جدا قراءة في التشكيل والرؤية لد حسين علي محمد
2. الرجل الذي فقد ذيله، قصص قصيرة جدا، منشورات اتحاد كتاب المغرب ٢٠١٣

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزلزال، كتابة الفاجعة. ق ق ج

أجنحة التحليق الجمالي في " مسلف النسيان من خطواتي"الحميدة بلبالي