أمي زهرا، المرأة التي ماتت مجنونة






أمي زهرا، المرأة التي ماتت مجنونة
عزالدين الماعزي
كم تمنيتُ لو لم تكن هي، في الحبّ والصور
بعينين عسليتين ناعستيْن وسيجارة سوداء في الفم وقبعّة ذات حواشي، تحدثك والدخان يتطاير شررا من فمها وأنفها. غريبٌ، أن أعود بذاكرتي لصورة فاتنة ذات معنى لن تتكرر وبوابة مقهى بوزو، أمامها علبة كازا وبين يديها عود سبسي طويل، تلقم رأسه بقايا عشب من ميكا مدورة .
أحسّ بابتسامتها الماكرة تحلّق، وأنها امرأة عادية، تفتح فمها الأدرد حزينة كشاطئ مهجور، جبهتها مليئة بمئات التجاعيد، لا تتعب من جلسة القرفصاء. كل من عاندها تسبّه بلهجتها الجنوبية : سير البلى، الله يعطيك السمْ، سير تقوّد..، عُمرك م شتّي شي مرا تتكيّف .
لوحةٌ عملاقة لامرأة من غير زماننا .
ماتت أمي زهرا مرة أخرى، وتكسرت تلك اللوحة التي عمرت طويلا في ذاكرة أبناء البلدة .
من أين جاءتْ؟، لا نعلم، أين كانت؟ لا ندري وتكاثرت الحكايا وتناسلت الاقوال بعد خبر الموت، وانغرزت إبرٌ في الذاكرة وعبرها تمدّد خوف ُ وارتعاشة المدعو الصعلوك (عزيز) وبينهما صورٌ موثّقة وذكريات وتخيلات ..
من شلالات صوتها وهي تعبر الشارع الوحيد قائلة: كثيرة هي العصافير على الشجر، وحدها تطير ووحدها تنتظر العودة، تقودهم لأول الطريق.
جسدُها يصفق للريح ، في شبه عزلةٍ تامة وقلبها يمطر غيمات صياحا وصراخا..
ارا الوتيدْ اولدْ .. هاك امّك.
عطر ممزوج يتسامى حرونا وبعصيان.
تتدلى من شفتيها فاكهة تشبه عناقيد الغضب
نكاية فيهم تضحك مرة أخرى وتخنزر آخر مقطع من قصيدة مشتهاة..
كأني أطلّ من شرفتي لأراك بمزاج كدر وكلما وبّخ النهر كلماته واسترسل في البكاء تغادريننا في قسوة البرد ولا أحد يفهم سر الانتماء، ولا ندري ما جرى، أأرميك بالجنون أم أضمخ صمتي بمزاج خاسر وأنت تطلبني مني آخر طلبية ..
قنينة كوكا ماركة لايك، وسيجارة ماركيز صفراء .
تخاطبيني، اذهب أيها الشاعر إلى خسرانك، ورتق جراحك بالصبر وأحلام قديمة واصعد بظلك لتمتطي الريح
في البدء، لم يكن الانتباه .
يتدلى من شفتيها العسل ولم تكن لتغريني بالنظر حتى أني مرة التقطت لها صورة اصطدمتبتعاليق نكرة .
كل الأشياء واضحة تقول، وهي تجثمُ متخفيةً قرب كشك مول الجورنال، جنب حانوت شوماكي . كلما اندلق الدم ساخنا في رأسها، رغبتْ في احتساء رشفة كوكا وسيجارة كازا، ثم الاتكاء على صرّة ثياب بالية في شرود.
في الرأس تكاثفت أعمدة التسكع واغتسل الألم بالنشيد، لذلك اختارت العزلة والوحدة ملاذا .
امرأة من تاريخ مجرّد، استوطنت القرية بعد مغامرات وقصص أزلية وليالي شهرزادية .
استوعبها الوجود لذلك لم تنتبه لنومها المتكرر،. مشاكسةٌ دائمة مع الأصدقاء والبحث عن عداوة وفواصل مشتركة. ستحقق المتابعة والبحث عن كأس قهوة بمذاق، على حساب الزبائن الكثر، وطزْ على "عزيز" وما يأتي منه، ثم الصمت المطبق، على بركان كلما زاحمها أحدهم في الجلوس والخلوة.
أراها حقيقية وبانتشاء النسوة الكبار، تجعلك تشتهي ارتشاف القهوة معها بمذاق الكبار، وكأنك تقع في فخ معركة مستعرة...
أودعك أمي زهرا، امرأة النسيان والتصدع، بتغريدة الصباح، باحثا عن صور لك وكلمات تركتيها علّة للأصدقاء، وأنت معلقة في المستشفى من يومين وكنت تفضلين الموت والدفن في زاوية سيدي اسماعيل، بدل البحث عن أهلك. في برودة الطقس لم ينتبه أحدٌ لفقدانك المفاجئ.
آثر أصدقاؤك كتابة التأبين وإقامة العزاء والدفن والواجب .
سيكون من الصعب غيابك يوم الاربعاء، أن نراك ممددة متخذة من ظلّ نخلة" سطاسيون شال" ملاذا لاستراحة محاربة رفضت أن تكون متسولة،، تصادقُ القطط وتشاركها طعامها.
افتقدتك صغار مينوش
كلما تكاثرت الضربات كلما رقصت اللغة، رقصة التعب من رحم الألم والخسارة
آن للبلدة أن تحس بالبرودة وأن تتنازل عن حقها فيك
من يعترف بالآخر..؟
لتتدفق الاحلام ولنتخذ من اللغة فخا للكتابة والحديث، ففي النهار تظلم الاشياء الواضحة .
أن تتأمل هذه الكائنة التي تعيش ما يكتب وتكتب ما يعاش في وسط البلدة وتبتسم ساخرة منهم ، وحدها تعرف الطريق تمرّ، من أمامي بئيسة تتهادى في مشيتها وتتأمل الوجوه، أراها ولا يراها أحد سواي، يهرع الجميع إلى مآربهم، على بعد خطوات مني ومنها وهي تتجه صوب مكانها الأليف وقطتها الشاردة.

الصورة :
ل"نبيل عبيد"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزلزال، كتابة الفاجعة. ق ق ج

أجنحة التحليق الجمالي في " مسلف النسيان من خطواتي"الحميدة بلبالي