المكشوف والمستور في مذكرات احميدو للكاتب المغربي أحمد المودن.

 


المكشوف والمستور في مذكرات احميدو للكاتب المغربي أحمد المودن.
إنجاز : عزالدين الماعزي

تقديم على إيقاع الإنصات
الإنصات إلى السرد الروائي الذاتي أو الكتابة الذاتية هو إنصات إلى همس الخطو؛ محاولة للقبض على ما يلفّ الذاكرة من سُنن وأنساق؛ مغامرة لاكتشاف معالم الحياة وحدس الوجود وإدراكه. تمهيد الطريق  لفهم العمل الإبداعي مع رصد قواعده ومحاولة التحكم فيه والوعي به عبر عملية ممارسة الكتابة التي تدورُ وتدور لتترك أثرا عابرا لا ينمحي، وسجلا موثقا حافلا بالأحزان الجميلة أو الأليمة. توفر الإحساس الصادق بالمكان والذاكرة لكاتب السيرة الذي يستعمل نفس مواد المؤرخ وتاريخ المنطقة يحتاج إلى بحث ومراجعة وتجديد. سلاح السيرة الذاتية هو الذاكرة وهي معرّضة لآفة النسيان، إنها كما يقول جوليان كَرين Julien Grean « غربال لا يمر من ثقوبه إلا ما هو جوهري".
إشكالية التعريف
يتفق العديد من الدارسين  بأنه ليس هناك تعريف متفق عليه لجنس السيرة الأدبي الإبداعي مع صعوبة تحديد ماهية جنس السيرة الذاتية.
فقد استخدمت عدة مصطلحات لوصف هذا الجنس الأدبي كمذكراتMémoires واعترافاتConfessions ومصطلح السيرة الذاتيةAutobiographyلوصف الطريقة الجديدة لكتابة السيرة الأوطوبيغرافية وفي طور البحث عن اسم جديد أو معنى جديد للمصطلح لكي يصبح " كافيا ومناسبا لتعريف كتابة قصة الحياة في العصر الحاضر التي لم تعد صفحاته أبطالها أشخاصاPersons بل أقنعةPersonae ".1
السيرة الذاتية أكثر إغراء للقراءة بالنسبة للقارئ العادي، وقد تكاثر الاهتمام وتزايد  في الساحة الثقافية المغربية والإعلامية بكون السيرة خطابُ كشف الحقيقة والوضوح حيث  ظهرت العديد من الإصدارات الجديدة التي واكبت الانفتاح والتحولات الاجتماعية والثقافية التي وقعت في التسعينيات والألفية الأولى.
مع تزايد الاهتمام بكتابة السيرة الذاتية لم يعد هناك مصطلح واحد متفق عليه عند العرب فالدارس كثيرا ما يستخدم السيرة والترجمة ولا نريد مناقشة مسألة التفريق بينهما أو تحديد موقفنا بل يمكن الإشارة كما جاء في كتاب " كتابة الذات، دراسات في السيرة الذاتية" ما ورد عند باسكال التفريق بينهما أي بين السيرة والمذكرات، ففي السيرة يتم التركيز على الذات وفي المذكرات على الذكريات مع الآخرين ويعترف بصعوبة الفصل أو وضع حدّ بينهما. ص41
ويزعم البعض أن أول من كتب السيرة هو طه حسين كما ان إدوارد سعيد " يزعم أن السيرة الذاتية جنس أدبي نادر الوجود في الأدب العربي". ص45
مذكرات احميدو بين المنجز السردي والكتابة الذاتية
المنجز السردي أو الكتابة الذاتية كما أسلفت من أهم الكتابات التي يتلقفها القارئ لأنها أكثر إغراء بالمتابعة والقراءة لكشف الفضول المعرفي والمتعة. ومذكرات احميدو من هذا النوع الذي استأثر باهتمام قراء مواقع التواصل الاجتماعي..
مذكرات احميدو، توثيق لتراث وتاريخ جزء من منطقة جبالة، كتاب بحجم متوسط ب 300    صفحة مزين بصورة جميلة بعدسة الكاتب، تمثل "المدشر" مسقط رأسه، وتشير إلى حدث هام هو حفل زفاف تظهر فيه السيارة لأول مرة عوض البهائم. صدرت المذكرات عن مطبعة وراقة بلال، فاس، في طبعة ثانية 2021. سردٌ لعالم الطفل الذي يقتحم عوالم محيطه الأولى، يستعيد من خلالها دهشته بالأمكنة والأشخاص مستعملا ضمير الغائب.
يسرد سيرته من خلال تجربة حياة شخصية احميدو أو التيجاني في الثمانينات  والتسعينات بمدشر جبلي. هي استعادة سيرة طفل أو لحظات من حياة عاشها احميدو بكل تفاصيلها وبجرأة أحيانا وببناء لحظات منسقة وفق ميثاق وجودي متطابق ورغبة في البوح والتحدي وركوب المغامرة، مع الوصف وكتابة الحقائق كما هي دون مراوغة لغوية، الالتصاق بجدّته التي كان " يراقب جدته وهي تعلم النساء كيفية تسميط الرضع.." ويطرح أسئلة كثيرة حول أعمالها اليومية.. و" يحلو لها أن تنادي حفيدها بسيدي أحمد التيجاني.."ص12
وانتقاله للدراسة في المدينة الصغيرة غفساي وما رافق ذلك من حكي ومغامرات وتطورات حصلت له باكتشاف معالم جديدة بعد حصوله على الشهادة الإبتدائية واكتشافه لذاته ومواجهة مشاكله النفسية.." مأساة جعلت الفتى أقل اختلاطا بالتلاميذ، بل أصبح منطويا وشبه معزول..".
بما أن السرد بوحٌ واضح للذات فإنه يستعمل ضمير الكتابة بالغائب لإفضاء بما في نفسه من هواجس والحديث عن الذات والأنا  له دلالة المواربة 
ارتباطه عبر وسيط، براوٍ عليم بأحواله كلها ورغم ما تسببه هذه المبادرة من مشاكل على مستوى التواريخ والاختفاء فإنه استطاع أن ينجح في الأمر وهذا ما يؤكده في ص7 من مذكرات احميدو : " تبيّن لي، من خلال تفاعل القراء الكرام، أن العديد منهم يجدون أنفسهم فيما أنشره، بل ومنهم من يحس كما لو أنني أتحدث عنه بلسانه.."، لذلك نلاحظ أن المذكرات ترتكز على وصف الأحداث العامة وخاصة التي لعب فيها الكاتب دورا هاما أو التي عاش وشهد بعضا من أطوارها.
إنه يستعمل الكتابة الذاتية قناعا، بل وتوضيحا جليّا لواقع مزر ومقنع تعيشه المنطقة الجبلية ووضعا اجتماعيا خصوصا أسرته وضمنها الأسر الأخرى مما جعله مفتوحا على التطرق للواقع المهمش بيُسرٍ وسهولة التناول ليس بكونه يعيش الوضع بل ينقله طبق الأصل، بعيدا عن الصيغ التعبيرية المنمّقة وبحكي متواز مما يستدعي استرجاع الذكريات بالتدقيق الوصفي وجوانب حقيقية مرتبطة به وبمحيطه وبجرأة كبيرة، دون تأنيب بل تجاوز ذاته لحكيّ وقع في الماضي ويريد التخلص منه. 
الكتابة السيرية اختلاسٌ للحظات السرية وخلاصٌ وطهارة من رجس الماضي. انخراط الكاتب بعفوية في لعبة الحكي المسترسل يمفصلها بعناوين واضحة لواقع يتحكم فيه بتوتر مزدوج وبحث عن الانعتاق والتغيير لذلك ارتبط العنوان كدال بمدلول توثيق لتراث وتاريخ جزء من منطقة جبالة..
الملاحظ أن قراءة أي عمل  يتطلب التوغل في دروبه ودهاليزه والانفتاح عن المواجهات القرائية التي تكشف المسكوت عنه والمُضمر وتحجب أسراره لذلك نحتاج إلى فهم شروط السياق العام : التاريخي والاجتماعي والنفسي لكتابة هذا العمل الابداعي باعتباره باكورة أولى للكاتب، والأمر يدعو إلى إعادة القراءة من جديد.
خاتمة، 
مذكرات احميدو تعبيرٌ ورصد لأشكال الحياة بطريقة ما. وأعتبره نصّاً لم يكتمل بعد. سوف يفرخ حتما نصوصا أخرى وأولها انفتاح الكاتب على تاريخ منطقته وعاداتها في الأعراس والأفراح والأتراح وتذييل المذكرات بملحق شرح الكلمات الجبلية الواردة في الرواية( من ص275 إلى ص294). أكيد أنها تجربة إبداعية تنتصر للماضي بعيون التاريخ للاستفادة والاستلهام، وما قدرته على استرجاع الماضي واستثمار ذلك في مذكراته. أعتقد أنها استراتيجية من الكاتب مهدتْ لنا رصد وقراءة عمله الإبداعي التوثيقي بمتعة وتلذذ؛ قراءة الماضي والراهن وأن التاريخ لا يتحقق إلا بكتابة المقاومة، مقاومة النسيان والتهميش والإقصاء.

هامش:
1. كتابة الذات، دراسات في السيرة الذاتية. صالح معيض الغامدي. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2013. ص 14.
2. نفس المرجع، ص41
.3نفس المرجع، ص44
4. مذكرات احميدو، توثيق لتراث وتاريخ جزء من منطقة جبالة. أحمد المودن، الطبعة الثانية، 2021, مطبعة وراقة بلال، فاس.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزلزال، كتابة الفاجعة. ق ق ج

كرسيتينا، قصة قصيرة