الطّيف
عزالدين الماعزي 

توقفتُ طويلا بالقرب من النّافذة الصغيرة التي تشبه كوّة في سطح المنزل، بغرفة أكْتريها منذ أعوام من عسكريّ متقاعد، باب الدّرج مقفل والباب الحديدي للمرحاض الموارب تؤرجحه ريح الخريف.. أحسّ كما يحكي أنه للوهلة الأولى وحيد متفرد، بعيدا عن الآخرين، - غاضبا يبدو -رغم الموسيقى التي تنبعث من بطن المسجلة الصدئة، يخامره شك كبير بعدم إمكانية عيشه وحده هنا في السطح؛ لكن ثمة آخرون يشاركونه الرفْقة. بعض الجيران يتلصّصون عبر النافذة؛ امرأةٌ تنشر الغسيل وأخرى تتفقّد جوانب السطح في حين أخرى تدور تُبصْبص كما يفعل هو.. وأصوات فتيات صغيرات يلعبن الغميضة في الدرب.. 
لم يلحظِ السكون المريب. لبث لحظة ينظر ثم حوّل نظره إلى الصورة المتبثة في الغرفة البئيسةِ في الأعلى.
رجلٌ يحمل سلاحا قديما يتوسد حجرا ضخما ينظر اتجاهه، العلامات تظهر.. من قال أنه ينظر..
الصورةُ تقول ذلك وليس العكس ؟
تهالك بجسد ثقيل وبكرشٍ مكورة على الكرسي كما تعود أن يفعل كلما أحس باليأس والانتظار. الصوتُ المنبعث من الشريط كئيب والأغنية كذلك، والسلاح الوحيدُ الذي يملكه هو السيجارة، أشعل واحدةً أخرى لقتل الوقت..؟
من عُمق جسده حرّر تنهيدة عميقة، وأمسك بيده الطويلة قنينة ماء متواجدة هنا، الشمس شعلة حمراء تظهر في الأفق، حذرتني اليوم كعادتها كل صباح بعدم الركون في الغرفة، وأن العزلةَ ضارّة بالجسم لكني لم أرضخ لنصائحها. وأخبرتها أني سأظلّ واجما منتظرا بيضة الديك أو نهاية العالم..
لا شيء يفصلني عنها وعن النظر في الجدار ولن أمضي إلى مكان كما تريد؛ أجبرتْني على الصمت والنظر بعيدا. لعل وعسى يأتي الذي.. أسمع أصواتا متكررةً ويدقّ قلبي ويتكرر المشهد، ماذا لو أبطأ القادمُ ؟
استلقيتُ قرب النافذة وكأني أسمع صفارة القطار، أفتح عينا واحدة، في لمح البصر أشاهد بياضا يمرّ.. 
في أعلى الصورة شيخٌ بالأبيض.. 
أغمضُ عيني وأنتظر.. عليّ أن أفتحهما قلتُ.. أفتح واحدة تلو الأخرى، يكتمل المشهد.. فعلا، شيخٌ أبيض بعصا طويلة على رأسها ضوءٌ مشع..
لا أكاد أسمع حتى صفارة القطار، تنكتِم أنفاسي وأشعر ببرودة في يداي وجسدي. 
أشار بيده، بسملتُ.. حوقلتُ..
تهيأ لي أني سمعته يأمرني بالوقوف.. وقفتُ.
صوتهُ.. يحاكي صوت امرأة..
"عليك بالخروج.. متى ستظلّ هنا قابعا ؟"
قال : انهضْ بني..
"اسْتقم" قال: "طرْ على بركة الله"
لم أستطعْ أن أضبط توازني في البداية، تمايلت،.. صرت فراشة،
تتبعُ الضوء وتطير بجناحين من نور.. ملامحي اختفتْ.. أرى أني لست فراشة واحدة.. بل عدّة فراشات.. على بعد مسافة ضوئية في فضاء الغرفة، أسبحُ.. تتراءى لي بقايا الشعلة البيضاء، أتابعها، أريد أن أمسكها،.. أقترب، أمدّ يدي فاحترقُ.. وأسقط. 
أفتحُ عيناي، أبصرُ نورا منبعثا من كُوّة النافذة الصغيرة.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزلزال، كتابة الفاجعة. ق ق ج

أجنحة التحليق الجمالي في " مسلف النسيان من خطواتي"الحميدة بلبالي